لم يكن مفاجئاً أبداً أن يلفت إدوارد سنودن، خبير الكمبيوتر والذي قام في عام 2013 بإفشاء أسرار عن تجسّس الحكومة الأميركية المنظم وغير الشرعي على ملايين المدنيين في الولايات المتحدة والعالم، انتباه واهتمام المخرج الأميركي المعروف اوليفر ستون، الى حد أن خصص له فيلمه الجديد الذي حمل عنوان «سنودن» (شهد مهرجان تورونتو السينمائي عرضه العالمي الأول أخيراً)، ذلك أن شخصية الموظف السابق في وكالتي الاستخبارات والأمن القومي الأميركيتين هي شخصية «ستونية» بامتياز، بما يجسده من مثال ناصع لبطولات أميركية فردية قادته في النهاية للاصطدام بالسلطات. كما يُذكّر الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين عندما قرر عدم السكوت عما تقوم به حكومة بلاده من تجاوزات، بانتماء وطني نقي وفروسية لطالما شغلت المخرج الجدليّ، والذي يمكن وصفه بأنه واحد من حراس الضمير الجمعيّ الأميركي، ومنجزه السينمائي، هو قراءة إشكاليّة مُحرضة، وأحياناً مُتحاملة ومبتسرة للتاريخ الأميركي المُعاصر.
صانعو التاريخ الحديث
يعود اوليفر ستون بفيلمه «سنودن» الى الشخصيات التي صنعت التاريخ الأميركي الحديث او كانت شاهدة على أحداثه التراجيدية والمفصلية والتي قدمها مراراً في سيرته السينمائية التي تقترب من نصف القرن، وعبرها يحلل ويستعرض الظروف الشخصية والعامة المحيطة بتلك الأحداث. متحدياً التفسيرات السائدة. هيمنت هذه الشخصيات على معظم أفلام المخرج، فقدم رؤساء أميركيين في أفلام وخزت بقسوة على عصب الطفولة والتربية الناشزة لهم، كما قارب حرب فيتنام ومفاعليها في عملين كبيرين، وكان أول المخرجين الأميركيين الذي يلتفت الى جشع المال في الثلث الأخير من القرن الماضي، والذي حل تدريجاً مكان قيم عدالة ومساواة عقد الستينات في الولايات المتحدة. وعندما أخذ اجازة من السينما قبل عامين، ظهر في برنامج تسجيلي تلفزيوني ضخم مرًّ فيه بالتسلسل على أبرز أحداث التاريخ الأميركي في القرن العشرين، عارضاً الأحداث كما وقعت، محذراً من أن التشويه والنسيان والإهمال وصلت الى قراءات التاريخ الرسمية في بلده.
يدخل ستون بفيلمه الأخير هذا في الجدال الحاميّ المتواصل حول «سنودن»، والذي قسم الأميركيين، بين من يعتبره بطلاً وبين الذي يرى فيه «الخائن» الذي كشف أسرار بلده وهرب بعدها من المواجهة لاجئاً الى روسيا. وهذه ليست المرة الأولى التي يقارب فيها المخرج الأميركي قضايا معاصرة، فقبلها قدم فيلمه المرتبك «دبليو» (2008) عن الرئيس الأميركي جورج بوش، وفيلماً آخر عن أحداث الحادي عشر من إيلول(سبتمبر) (هو «برج التجارة العالمي») عام 2001، ولم يكن انقضى الا سنوات قليلة عليها. ولعل «ستون» بتصديه الآن لفعلة العامل السابق في وكالة الأمن القومي، يُمكن تفسيره بأن لا جديد سيحدث في قصة «سنودن»، سيكون بأهمية الأسرار التي كشفها والموقف الذي أخذه، وأن ما يمرًّ به اليوم من نفي وعقوبة تلوح فوق رأسه هو أصداء فقط للزلزال الذي أحدثه.
يبدأ الفيلم بمشهد لـ «سنودن» مع المخرجة التسجيلية الأميركية لورا بويتراس وغلين غرينوالد (صحافي جريدة الغارديان) في غرفة فندق هونغ كونغ، حيث كان «سنودن» على وشك أن يكشف الأسرار التي حملها معه من الولايات المتحدة للشخصيتين الإعلاميتين واللتين انتخبهما بعناية وبعد بحث طويل، على أمل بأن ينقلا تلك المعلومات الى العالم. من تلك المشاهد، سيعود الفيلم الى شباب «سنودن»، وليواصل بعدها التنقل بين الحاضر والماضي، وحتى يلتقي زمناه في الجزيرة الصينية. وإذا كنا نعرف مسّار الأحداث من وصول «سنودن» وحتى هروبه الى روسيا التي طلب اللجوء فيها، والذي قدمته من قبل المخرجة «بويتراس» نفسها، في فيلمها التسجيلي الرائع «سيتزن فور»، فإن المسار الآخر، لبداية عمل «سنودن» مع الأجهزة الأمنية الأميركية وحتى قراره كشف أسرار هذه الأجهزة، مازال الغموض يحيطه، وهو الذي حاول هذا الفيلم الروائي تخيّله بناءً على معطيات وبحث، مركزاً على علاقة «سنودن» بصديقته «لينزلي»، والدور الذي لعبته هذه الأخيرة في تغيير قناعات صديقها.
شكوك أولى
يقترح الفيلم أن «لينزلي» هي التي زرعت بذور الشكوك الأولى في روح «سنودن»، والتي ستكبر مع الزمن لتمنح الشاب الثقة والعزيمة للتمرد على الأجهزة الأمنية الأكثر سطوة في العالم. في مشاهد مبكرة من الفيلم تتحدى «لينزلي» صديقها بخصوص شرعية تجسس الأجهزة الأمنية الأميركية على مواطنيها. وفي مشاهد لاحقة سيتابعان معاً بحماس انتخابات الولاية الأولى للرئيس باراك اوباما، والذي كانت الفتاة الأميركية من المناصرين له. لا يبدو «سنودن» وكما قدمه فيلم اوليفر ستون وكأنه عانى من صراعات نفسية حادة بسبب تبدلات الرؤى من الثوابت من حوله، وأن التغيير حدث في النهاية بفعل الآثار التراكمية لما شهد عليه من تجاوزات. في واحد من مشاهد الفيلم سيطلب البطل من زميله أن يوقف الفيديو الذي كان ينقل تفاصيل حميمة من غرفة فتاة مسلمة تشك المخابرات الأميركية في سلوك والدها، ووضعت لذلك كاميرا سريّة في غرفتها.
في أجواء تقترب من الملحمية يُفصِّل الفيلم السنوات القليلة التي عمل فيها «سنودن» في وكالة الاستخبارات الأميركية وبعدها وكالة الأمن القومي، والذي سيأخذه الى سويسرا واليابان وجزيرة هاييتي للعمل في مراكز خاصة هناك. يركز الفيلم على علاقات البطل برؤسائه (أحدهم يلعب دوره نيكولاس كيج في إطلالة قصيرة وباهتة للممثل الأميركي المعروف)، ومواقف ذلك الجيل من العالم الذي تغير بعد الحادي عشر من أيلول. يبوح مدرب سنودن الآخر والذي يؤدي دوره ببراعة الممثل البريطاني ريس أيفنز، أن تفجير برجي نيويورك هو الإثم الذي سيحمله الجيل السابق في المخابرات الأميركية الذي فشل في إيقافه، في حين سيكون أيّ عمل إرهابي جديد آخر هو مسؤولية جيل «سنودن»، وهو أمر سيكون مريعاً إذا وقع.
الذي ينتظر شيئاً من القتامة واللغة السينمائية المبتكرة المتدفقة لأفلام مثل: «قاتل بالفطرة» و«جي. أف. كي» أو حتى «نيكسون»، سيخيب أمله مع فيلم «ستون» الجديد. وإن تميز هذا الأخير ببناء محكم وسلاسة سردية. لا مفاجآت مزلزلة في الفيلم لجهة تطور الشخصيات او تبيان صراعاتها الداخلية، قبل وصولها الى الحدث الجلل الذي ستقدم عليه. وعلى رغم أن الممثل جوزيف غوردون – ليفيت الذي لعب دور «سنودن» كان قريباً أحياناً من الملامح الخارجية للشخصية الأصلية، وأجاد نبرة صوتها الخاصة، الا إن إداءه في شكل عام لم ينقل ذلك الصفاء والتصميم اللذين يفسران ويميزان إطلالات الشخصية الحقيقية على الإعلام، وبالخصوص في تلك الأيام الحرجة التي نقلها فيلم «سيتيزن فور» والذي كان هناك معه في غرفة الفندق في هونغ كونغ، حيث لم يكن من المعروف عندها كيف سينتهي مصيره. في حين جاء إداء الممثلة شايلين وودلي التي لعبت شخصية «لينزلي» سطحياً، وأفسد على نحو ما، هالة الغموض التي تحيط بالشخصية الحقيقية التي ترفض الظهور على الإعلام.
يبدو مشروع فيلم «سنودن» برمته محيراً كثيراً، اذ إن المخرج يضع نسخته الدرامية الخاصة للتاريخ ومن دون مبررات موضوعية مقنعة في مقابل الصور الإعلامية الحقيقية المفصلة والمنتشرة عن القضية والشخصية، والتي نقل بعضاً منها وبتميز كبير الفيلم التسجيلي «سيتيزن فور». ينزع «ستون» في فيلمه هذا قبعة المخرج المتمرّد ويضع بدلاً منها قبعة المخرج المحترف ويزيد من جرعة العاطفية. على رغم أن هناك مشاهد سينمائية أخاذة في الفيلم، كالذي ينقل لقاءً بين «سنودن» ورئيسه، الذي صوّر عن بعد عبر أشجار غابة في لحظة غروب. كما يحول المخرج أحداثاً نعرف خواتيمها الى سلسلة من المشاهد التي تقطع الأنفاس بإثارتها. لكن «ستون»، والذي تحاول سينماه دائماً التحكم في مشاهديها والتأثير فيهم عاطفياً، يبتعد أكثر بفيلمه الأخير هذا عن سنوات تألقه ويقدم عملاً يفتقد الحدة في شكل عام. كما يكرر المخرج في المشاهد الختامية من فيلم «سنودن» ما يفعله غالباً في أفلامه، عندما يختار موسيقى مبالغاً في عاطفيتها كي تكون الخلفية الصوتية لنهايته المفتوحة.
المصدر : الحياة