لم يكن مفاجئاً وصول محادثات جنيف إلى مأزقها أو فشلها الراهن، إذ على الرغم من الآمال التي روجها المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، والوعود التي أطلقها رعاة اتفاق الهدنة المزعومة تحت اسم اتفاق وقف العمليات العدائية، فقد كان ذلك الفشل حدثاً متوقعاً وغير مستغرب. ليس لمن خبر عصبوية النظام وطبيعة علاقته مع حليفية الروسي والإيراني فحسب، بل لكل مراقبٍ لاحظ مماطلة النظام وتعطيله كل تنفيذ مفترض لبنود القرارات الدولية الصادرة حول إطلاق سراح المعتقلين، وإدخال المساعدات إلى المناطق المحاصرة، فضلاً عن قيامه مع كفيله الروسي بالخرق المكثف والمتواصل ما سميت الهدنة، تحت ستار الذريعة الرائجة والمفضلة دوليا باسم محاربة الإرهاب.
ومع استفحال المراوحة، بين مطلب وفد المعارضة في تنفيذ القرار الدولي المتعلق بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي وهروب المبعوث الأممي، ومن خلفه وفد النظام وحليفه الروسي، إلى عروض حكومة الوحدة الوطنية ونواب الرئيس، تحت سقف عدم مناقشة التغيير، وتوحيد القوى ضد الإرهاب. بينما تابعت قوات النظام وحليفاه، وخصوصاً الطيران الروسي، ارتكاب مزيد من المجازر الداعمة لـ “سورية المفيدة”، لم يعد في وسع وفد المعارضة أن يستمر في تمرير تلك الخديعة، وتلك التغطية على انتهاكات النظام وحلفائه، على الرغم من أن موقفه جاء تحت اسم تأجيل المباحثات، وطلب تعليقها، وليس رفضاً لفكرة التفاوض نفسها، ولا قطعاً مع سعي المجتمع الدولي لرعايتها، بدليل بقاء وفد مصغر عنه في جنيف، للتواصل مع مهمة المبعوث الأممي.
وحالما اتخذ وفد المعارضة ذلك الموقف، وأعلنه رئيس الهيئة العليا للمفاوضات، رياض حجاب، بدأ سيل متنوع الأشكال من الضغوط الدولية، بهدف إعادة الوفد إلى المباحثات. وإلى ذلك، لمح مسؤولون أميركيون إلى أنّه، في حال لم تتم العودة عن قرار تعليق المشاركة في المفاوضات، فإنّ المعارضة “تكون قد ضيعت فرصة كبيرة لتحقيق الانتقال السياسي”، بينما على هيئتها المفاوضة أن “تكون خلاقة، وألا تكون متشدّدة ومتعنتة”، مطالبين منها أن تتجاوز كل ما يحدث، وتنصرف إلى قضايا تأسيسية، كقضية الدستور الذي طرح المبعوث الأممي دي ميستورا مسودته، وأن تكون تلك المناقشة إيذاناً ببدء مرحلة المفاوضات التي طالما تأخرت. ووصل الأمر إلى درجة تأكيد دي ميستورا أن مباحثات جنيف ستستمر وتعاود جلساتها بعد أيام، مع الإيحاء والتهديد المبطن بأنها ستتابع بمن حضر من المعارضة، أو بضم وفود بديلة، جرت تسريبات إعلامية عن ترشيح شخصياتٍ معينة لها.
وفي الحقيقة، وعلى الرغم من أن الموقف الذي اتخذه وفد المعارضة لا بد أن يكون قائماً على حسابات سياسية، تراعي الاحتمالات المطروحة، وتعتمد على الإمكانات وحدود دعم الدول الصديقة للثورة ووعودها. لكنه، أي هذا الموقف، وضع المعارضة أمام امتحانٍ حاسم، يبدو أنه حان وقته، وهي التي تمكنت، لأول مرة، من توحيد وفدها في مؤتمر الرياض، بصورة نادرة ومخالفة لما عهد عن السوريين من فرقة ونزوعات فردية تاريخياً، ولما عرف عن تشتت المعارضين والتعدد العنكبوتي لتنظيماتهم حديثا.
ولن يكون هذا الامتحان للمعارضة وفصائلها العسكرية والسياسية، بل سيكون لحاضنتها الاجتماعية السورية أيضا، بما فيها من منظمات مدنية وإغاثية وخدمية وقوى ورموز وشخصيات، في الداخل وفي الخارج. وهي الحاضنة التي خرجت، مع أول مظاهرات الثورة، من إطار الصمت والستار الحديدي الذي كان مطبقاً على جماع السوريين، فتفجرت تعبيراتها، وتعالت أصواتها الفردية خطاباً وغناء وكتابة، بما أتاحته لها ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن، في مناخ فقدان التواثق وانعدام تقاليد العمل الجماعي الموروثة عن عهود الديكتاتورية. فوصل ذلك إلى كل ما شهدته ساحة المعارضة وحاضنتها من تشتت وتبعثر تنظيمي، وانفلات الفرديات إلى حدودٍ لا تسمح بالحوار والصبر على فرص التداول الديمقراطي وقواعده، وهي أمور لا شك في أن النظام لعب عليها أيضا، واستفاد من ثغراتها في حربه ضد الثورة والمجتمع السوري.
هكذا، لن يكون وفد المعارضة قوياً وقادراً على تمثيلها، وتعزيز موقفه، والتفاوض حوله، ما لم تكن المعارضة بمجملها، ومعها حاضنتها وأصدقاء الثورة السورية الفعّالون حقا، من دول ومنظمات، خلفه موحدة وداعمة، بغض النظر عن أصوات ناشزة، قد تخرج وستخرج، بالتأكيد هنا وهناك.
ويتطلب هذا الأمر، كما كتب برهان غليون قبل أيام، من الهئية العامة للمفاوضات عدم الاستكانة لصحة موقفها فقط، بل عليها بذل جهود إعلامية واسعة، والقيام بكل ما يلزم من اتصالات وجولات وشروحات لا تهدأ، فضلا عن كون ذلك واجب المعارضين ومؤسسات المعارضة وحاضنتها بالضرورة. فهل سنرى علامات على تعزيز هذا التوجه الذي لا شك أن الثورة السورية بحاجته في لحظةٍ تاريخية حقا، وهو الذي قد ينير بعض الضوء في نهاية نفقها الطويل؟
المصدر : العربي الجديد