لم أستطع أن أتجاوز الكتابة عن سورية هذا الأسبوع، على الرغم من محاولتي البحث عن موضوع آخر، فالعالم يعيش مرحلةً تتسم بسرعة الأحداث التي توحي بأن تغيرات كبيرة ستحصل، فمجزرة خان شيخون تعيد مسك كل مكنونات الوضع السوري، حيث يظهر واضحاً أن النظام ما زال يمتلك أسلحة كيماوية (ربما سُمح له بها لكي يلقيها على الشعب)، وأنه جريء إلى حد أن يقوم بذلك الآن، ربما بعد أن ركن إلى الدعم الروسي القوي، والميل الأميركي إلى إظهار ما كان يبدو احتمالياً، أي الحديث بوضوح أكبر عن بقاء بشار الأسد والتحالف معه لضرب “الإرهاب” (بات يجب أن توضع هذه الكلمة بين ألف قوس).
وأيضاً ظهر بفجاجة تلاشي أي قيمةٍ أخلاقية لدى الممانعة التي لا تزال تكرّر أن ما يحدث في الواقع هو “صور مفبركة”، هذه الكذبة التي اخترعها النظام، منذ البدء، للتغطية على كل الجرائم التي اقترفها، وأتت لكي تكون “غشاء البكارة” الذي يغطي كل سفالات الممانعين، حيث لا بدّ من التغطية على دعمهم لنظام مجرم. وبالتالي، لا بدّ من نفي كل جريمة يقوم بها، واعتبار أنها من صنع “المؤامرة” الإمبريالية السعودية القطرية. هؤلاء مجرمون، مثل النظام الذي يقوم بأقذر “مهمة تاريخية” خدمة للإمبرياليتين، الروسية والأميركية، وكل الإمبرياليات التي تريد تدمير مسار الثورة الذي اشتعل هنا والآن.
وروسيا التي تقصف وتقتل وتدمر يومياً، لا تزال تغطي جرائم ضد الإنسانية، بل وتكملها بجرائم أخرى باستخدامها أحدث أسلحتها التي باتت سورية هي “ساحة التدريب” التي توضّح قدرات تلك الأسلحة، و”تفوقها”. لهذا، هي مجرمة، وتغطي جرائم إبادة ضد الإنسانية، فهي كذلك تخاف الثورة التي ستطل من موسكو، وربما يمارس الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ما مارسه في الشيشان، حين دمّر غروزني وقتل مئات الآلاف، وما يتدرب على ممارسته الآن في سورية.
والنظم العربية كلها ليست معنية بما يجري، ربما على العكس كذلك، فهي معنيةٌ بتدمير المسار الثوري الذي بدأ في البلدان العربية ولن يتوقف. وهذا موقف أميركا منذ البدء، حيث أرادت من يطفئ هذا الحريق الذي بدأ بالشكل الأشد دموية، وكانت تعرف أن النظام السوري هو القادر على هذه “المهمة التاريخية”. لهذا ظلت تناور لمصلحته، وظلت تكبح تطوّر الثورة، ولعبت بورقة “داعش” وقوات سورية الديمقراطية، لكي تحوّل الصراع إلى منازعات بين قوى محلية، ودعمت كل الدول الخليجية التي لعبت على وتر أسلمة الثورة ودعم الأصولية.
لهذا، ليس هؤلاء كلهم معنيين بالمجزرة، لا الحالية في خان شيخون والقتل في سلقين، ولا كل المجازر السابقة، بل ربما على العكس هم الأكثر حاجة لها لكي ينطفئ الحريق الثوري الذي أخافها، بل أرعبها. هذا ما يعطي بشار الأسد الضوء الأخضر، لكي يستمرّ في القتل والتدمير، وباستخدام كل الأسلحة الممكنة، بما في ذلك الأسلحة الكيماوية، فهو يريد سورية بعدد قليل من السكان، بحجم مطامحه الضيقة، ومن ثم لا يتراجع عن قتل أغلبية السوريين، أو تهجيرهم، أو سجنهم وقتلهم في السجون.
هذه هي صورة الوضع التي تفرض اعتبار الروس مجرمين وأعداء، واعتبار أن المطلوب هو الشغل على تحويل أركان النظام وروسيا وإيران إلى المحاكم الجنائية. لكن كذلك إنهاء لعبة التفاوض التي باتت تكرّر المفاوضات الفلسطينية التي ظلت بلا جدوى. ورفض اعتبار الروس وسيطاً بل قوة احتلال، والتعامل معها باعتبارها قوة احتلال. فلولاها لما بقي النظام، ولا مارس كل هذه المجازر، وكذلك الأمر فيما يخص إيران وحزب الله، وكل “الهلمّ” الطائفي الذي تجمع في الميلين من المصدر نفسه. فهؤلاء هم من أوجد القوى الطائفية “الشيعية”، وكذلك “السنية”، أقصد “داعش” وجبهة النصرة وعصابات أخرى زُرعت باسم الثورة.
ليس العالم من سيحاسب، فهو مرتاح لما يجري، بل نحن من يجب أن يحاسَب.
المصدر : العربي الجديد