في مجمع أبحاث في كولهام، وهي قرية هادئة تقع جنوب مدينة أكسفورد في بريطانيا، تسير سيارة من دون سائق ببطء في مسار قصير. الجولة ثابتة والتجربة اعتيادية، لكن البرنامج الذي يوجه السيارة يمكن أن ينافس في يوم من الأيام برامج غوغل وأوبر، هذا ما يقوله مؤسسو “أوكسبوتيكا”، وهي شركة “منبثقة” أسسها باحثون في معهد الروبوت التابع لجامعة أوكسفورد.
ويأمل الباحثون في أن تستخدم هذه التكنولوجيا لتسيير سيارات مستقلة في المستودعات والمناجم وربما على طرقات بريطانيا. وهذا الصيف وجهت نسخة من هذه البرامج وسيارات نقل صغيرة عبر ممرات معدة للمترجلين في حي غرينيتش في لندن وفي مدينة ميلتون كينز. ويقول محللون إن مشروع جامعة أكسفورد هو انعكاس للطموح الذي يحييه صانعو السياسات في الحكومة البريطانية. وإلى وقت قريب كانت الجامعات البريطانية متأخرة عن نظيراتها من الجامعات الأجنبية في ما يتعلق بتحويل المقالات المنشورة في المجلات العلمية إلى أموال.
ويقول أدريان داي من مجلس أنكترا لتمويل التعليم العالي إن العملية كانت دوما هي نفسها، حيث يقوم أكاديمي في جامعة بريطانية بنشر بحث ويترك في رف مغبر دون أن يقرأ، ثم يستعمله شخص آخر “ليصنع جهازا”، وبذلك يستأثر بالربح. والآن لم تعد الحال كما كانت عليه في السابق. وفي دراسة أجريت سنة 2014 من قبل معهد التكنولوجيا في ولاية مساشوستس الأميركية، احتلت كل من جامعة كايمبريدج وأوكسفورد وإمباريال كوليدج في لندن ثلاثا من المراتب الخمس الأولى في ترتيب الجامعات الأكثر دعما للتطور التكنولوجي.
وليست أفضل الجامعات فقط هي التي أصبحت ذات توجه تجاري أكبر، ففي كامل القطاع ازداد الدخل من البحوث الممولة والاستشارة واستخدام المرافق والملكية الفكرية بمعدل 4.8 بالمئة في السنة على مدى العقد الماضي، وأصبح ثلث الجامعيين يعملون مع الشركات الخاصة حاليا. لكن ماذا تغير؟ جزء من الجواب هو أن أداء الجامعات البريطانية كان في السابق ضعيفا. حسب التقرير الذي صدر عن معهد مساشوستس للتكنولوجيا تتمثل أهم عوامل النجاح في البحوث المتميزة وحسن جودة الحياة وطلبة يتمتعون بروح المبادرة والدعم المؤسساتي والحكومي وثقافة الابتكار.
وكانت الجامعات تملك الكثير من البحوث الجيدة، لكنها كانت تتلقى نزرا قليلا جدا من الدعم اللازم من المؤسسة والحكومة أو من وسط الأعمال لكي تستفيد من أبحاثها. ونتيجة لذلك كان جلب الاستثمار من مصادر غير تقليدية “رياضة أقلية للمتحمسين”، حسب تعبير فيل كلار من جامعة أوكسفورد. والأشخاص الأقل حماسا فقط هم من أبدوا الاهتمام في بداية القرن الجاري عندما أعطت الحكومة البريطانية ومجالس البحث الأولوية لتمويل الجامعات والباحثين والمشاريع التي تتمكن من إظهار نفعها على المجتمع. والآن تم ترسيخ هذه المقاربة بقوة.
ونمت الأبحاث الممولة من قبل جهات خارجية بسرعة، حيث ارتفعت بمعدل 5.5 بالمئة في السنة على مدى العقد الماضي. وتأتي قرابة 40 بالمئة من هذا التمويل من القطاع العام. وتربط الجامعات منذ زمن طويل علاقات مع الشركات الكبرى لصنع الأدوية، لكن الصفقات الأخيرة تعكس تعمق تركيز التعاون مع القطاع الخاص، إذ دخلت جامعة ليفربول في شراكة مع شركة “أونيلفر” لإنشاء مركز بحث في مجال الكيمياء بقيمة 65 مليون جنيه إسترليني (110 ملايين دولار).
كما تعمل جامعة ساوثهامبتون مع شركات بما فيها آيرباص وناتوورك رايل ورولس رويس على بناء مركّب هندسي جديد. وهنا يعلق دافيد دوتشرتي عن المركز الوطني للجامعات والأعمال بالقول إن الجامعات البريطانية عادة ما تجيد جذب الاستثمار الخارجي. لكن بالرغم من شروع الجامعات البريطانية في جلب المزيد من الاستثمارات، ينبثق منها عدد من الشركات أقل مما لدى نظيراتها في الولايات المتحدة. وبالفعل يتناقص عدد الشركات المنبثقة مثل “أوكبوتيكا” المنشأة في الجامعات البريطانية، ويرجع ذلك أساسا إلى أنها اكتشفت أنه من السهل إطلاق مشروع، لكن من الصعب إطلاق مشروع ناجح.
ومنذ أواخر التسعينات من القرن الماضي سعت الحكومة إلى تنمية روح المبادرة الموجودة في الجامعات الأميركية الأولى، وخاصة ستانفورد ومعهد مساشوستس للتكنولوجيا. ويقول نيك هيلمان من معهد سياسات التعليم العالي “رغبت الجامعات كلها في التفوق على بعضها البعض في ما يخص عدد الشركات المنبثقة عنها، لكن الكثير منها كانت صغيرة جدا ولم تذهب بعيدا”. وهكذا لم تعد معايير التمويل مركزة على عدد الشركات المنبثقة، وهو ما يعني إنتاج عدد أقل من الشركات “لكن على أمل أن تكون أحسن”.
ويقول طوني رافن، مدير فرع التسويق في جامعة كمبريدج، “من خلال عدم وضع الكثير من الرهانات الصغيرة هناك أمل في بروز فـاعل عالمي حقيقي” من الجامعات البريطانية. وأنشأت كل من جامعة كمبريدج وأكسفورد وإمباريال كوليدج صناديق استثمارية لوضع المال في تمويل المرحلة المبكرة للشركات المنبثقة عن الجامعات، وهي تشكو من الندرة نسبيا في بريطانيا. ويجري اليوم استنساخ هذه المقاربة في مختلف أنحاء الأطلسي، وذلك في حد ذاته علامة على مدى النجاح الذي وصلت إليه الجامعات البريطانية.
المصدر : العرب