خلال أربع سنوات، طُرح لحل الأزمة السورية نحو عشر مبادرات سياسية، ست منها أساسية وقفت خلفها مؤسسات عربية وأممية وقوى دولية، لكن جميع هذه المبادرات فشلت، لا فقط بسبب الهوة الشاسعة بين النظام والمعارضة، ولا ضراوة تشبث النظام بالحكم وعنفه، أو محاولاته تسليح وتطييف الثورة، ولا بسبب إيران وروسيا والميليشيات الطائفية التي أتت من كل حدب وصوب، بل فشلت لأنها جميعها لم تكن جدّية، وحملت في جوهرها أسباب فشلها، أو حمّلها أصحابها أسباب هذا الفشل عن دراية أو جهل.
بعد نحو شهرين من انطلاق الثورة، قدّمت المعارضة السورية مبادرة تعتمد على توفير بيئة للحوار تقوم على وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بالتظاهر السلمي والتفاوض مع النظام على مرحلة انتقالية تقود لدولة ديمقراطية، وحملت هذه المبادرة الأولى أسباب فشلها، لأنها كانت مُقدَّمة من طرف ضعيف عسكريا لا يملك أي قوة إلزام للنظام، وكانت مجرد أفكار يعرف الجميع أن النظام لن يقبل بها ولا بأي مبادرة شبيهة تهدد أبدية وجوده.
بعد نحو عشرة أشهر من انطلاق الثورة، قدّمت الجامعة العربية مبادرة وأرسلت بعثة لمراقبة تنفيذ النظام السوري لالتزاماتها لإنهاء الحملة العسكرية العنيفة التي شنها ضد المحتجين السلميين المطالبين بإسقاطه، لكن النظام قيّد حركة المراقبين وراقبهم ومنعهم من لقاء الناشطين، بل وحاول استهدافهم بالقصف والقنص، لأنه كان يُدرك أن نهايته ستأتي بحال وجود طرف ثالث، لأنه لمجرد وجود خمسين مراقبا لا غير خرجت في أحد الأيام بتلك الفترة 450 تظاهرة شارك فيها أكثر من 3 ملايين سوري، كانت الأوسع منذ انطلاق الثورة.
ومن جديد، يمكن الجزم بأن هذه المبادرة (والبعثة) حملت في طياتها أسباب فشلها، فهي لم تكن قوة ردع لحماية المدنيين، بل قوة مراقبة لا حول لها ولا قوة، ولم يتجاوز دورها فكرة المراقبة لتخويف النظام على أمل أن يخجل من ارتكاب المجازر أمامها ويخفف العنف مؤقتا، وهو ما لم يحصل طبعا.
فيما بعد، فشلت مبادرة المبعوث الأممي السابق كوفي أنان ذات النقاط الست، والتي دعت السلطة السورية لوقف العنف وإيجاد حل سياسي للأزمة، ورغم أنها لقيت تأييدا من كافة الأطراف، النظام والمعارضة المسلحة وغير المسلحة والمجتمع الدولي، إلا أنها فشلت لأنها حملت في جوهرها مقوّمات فشلها، فهي اعتمدت على طوعية وأخلاق النظام السوري وحسن نيّته في سحب الجيش والقوات الأمنية من المناطق السكنية ووقف العنف وإيصال المساعدات الإنسانية والإفراج عن المعتقلين والسماح بالتظاهر وبدء حوار مع المعارضة، ولم تُقدّم برنامجا لحل الصراع سياسيا، بل قدّمت خطة من مجموعة مبادئ مبهمة نسبيا، وصيغة لإدارة هذا الصراع وفق قواعد تحجِّم قدرة النظام على سفك الدماء، دون تفاصيل أو ترتيب أولويات، ولا برنامج زمني ولا عقوبات رادعة.
لم يكن سبب فشل خطة المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي مختلفا عن سبب فشل خطة سابقه، فقد أوصل السوريين إلى مؤتمر جنيف، الذي لم يكن إلا مجرد احتفالية دولية حمّالة أوجه، وأنتج لهم بيان جنيف الذي فسّره كل طرف وفق ما يراه مناسبا، ولم تحسم مبادرته هذه مصير الأسد خلال وبعد المرحلة الانتقالية، ولم تحدد برنامجا زمنيا، ولم تتضمن أي ردع أو عقوبة لمن لا يلتزم بها، ثم قادتهم إلى مؤتمر جنيف 2، الذي خرج منه الإبراهيمي نفسه يائسا خائبا، فقد اكتشف أن مبادرته حملت، بالفعل، أسباب فشلها لأن صنّاعها أرادوها كذلك، عائمة غامضة ملتبسة وتحمل أكثر من تفسير.
مضت الأيام، وبعد عسر ولادة، أحضر المبعوث الأممي الأجدد ستيفان دي ميستورا مبادرة جديدة، بمصطلح جديد غير مُعرّف سابقا وهو “تجميد القتال في منطقة جغرافية محددة”، لم يفهمها أي طرف، ولم يوافق عليها أي طرف، لأنها لم تكن تحمل في تلابيبها سبب فشلها، بل أسباب فشلها، فلا هي مبادرة سياسية ولا عسكرية، لا توقف الحرب ولا تُنشّط الحل السياسي، وتعتمد على نوايا ورغبات ومصالح، مجتزأة لا يُعرف بدايتها من نهايتها، والأهم أنها ليست مُلزمة لأحد، ولا تحمل أي ضمانات أو عقوبات رادعة لمن يُخربها في أي مرحلة منها.
عقب هذه المبادرات التي تحمل في كل مفاصلها أسباب شللها، استغلت السياسة الروسية الفرصة، وطرحت مبادرة يقودها المستشرق فيتالي نعومكن، وهي ليست نموذجا مثاليا للمبادرات التي تحمل أسباب فشلها، وإنما نموذج مثالي للمبادرات المغموسة بالفشل.
في مبادرتها هذه، دعت موسكو السوريين للحوار، دون شروط مسبقة، ولم تعترف بأي معارض كممثل لتنظيمه أو تياره، ودعت المعارضين بصفتهم الشخصية، ولم تضع معايير واضحة للجهات المشاركة، ودعت مؤيدين للنظام على أنهم معارضون، ولم تضع برنامج عمل للقاء، ولا جدول لما سيتم مناقشته، وتركت كل شيء مفتوحا، كما لم تضع قضايا لمناقشتها أو أسسا للحوار أو البحث، وكان كل همها تهميش بيان جنيف.
نلاحظ وجود صفة مشتركة بين كل المبادرات المتعلقة بالأزمة السورية، وهي أنها جميعها تحمل أسباب ومبررات فشلها قبل انطلاقها، وهو ما يبرر عدم استغراب السوريين من فشلها واحدة تلو الأخرى، فكانت النتيجة أمرا متوقعا، وشخّص السوريون مظاهر الفشل بثلاثة أسباب.
أول أسباب فشل جميع المبادرات أنها تعاملت مع النظام السوري بحسن نية، وافترضت وجود احتمال لالتزامه بوعوده، كما اعتبرت أنه يبحث بجدّية عن حل سياسي يُنهي الأزمة السورية بما يخدم سوريا. والسبب الثاني أنها همّشت قوى المعارضة السورية المسلّحة، ولم يكونوا جزءا من أي منها، وكأنهم عنصر هامشي في هذه الأزمة، بينما الواقع يؤكد أن لهم وزنا وسلطة أكثر من المعارضة السياسية التي فقدت مؤيديها. أما السبب الثالث فلأنها لم تحمل أي ضمانات، ولم تكن مُلزمة لأحد وخاصة النظام، فيما كان السوريون يأملون أن يضع أحد كلمة “الفصل السابع” بين طيات مبادرته.
دون الالتفات لهذه الأسباب الثلاثة، ستبقى جميع المبادرات المقبلة حول الأزمة السورية غير جدّية ولا مجدية، ولن يُكتب لها النجاح، وستستمر بحمل أسباب فشلها، والخشية أن ينتظر السوريون كثيرا حتى يضع أحدهم كلمة “الفصل السابع” بين طيات مبادرته، ليُنهي أسباب فشلها المسبق.
العرب اللندنية _ وطن اف ام