“ضحايا الاعتداءات والهجمات على أساس طائفي أو ديني في الشرق الأوسط”. تحت هذا العنوان وبحضور 70 متحدثا يمثلون جهات وجماعات ودولا، عَقد مجلس الأمن، قبل أيام قليلة، جلسة مداولات على المستوى الوزاري بدعوة من فرنسا التي تتولى الرئاسة الدورية لشهر مارس، حيث طالب وزير خارجيتها من الأمين العام للأمم المتحدة وضع ميثاق عمل لمعالجة واقع الأقليات في منطقتنا.
الأمين العام بان كي مون أكد أن الشرق الأوسط، مهد أعظم الحضارات، داعيا العالم إلى تمكين الشباب من المساهمة في إثراء التنوع لصالح التقدم. مقولة قديمة تبنيتها، من نتاج طفولتي، لارتباطها بأحداث ترسخت في المخيلة وتنامت مع تسونامي البشاعة الذي اجتاح بلادنا وهي “كلنا أقلية وسط أكثرية”، وهذا التقييم العددي ينطبق على الجميع، أما كيف، فذلك ما يشبه مباراة كرة القدم التي تقام على نظام الذهاب والإياب، وهنا يمكن أن يكون التطبيق زمنيا، بمراعاة متغيرات القوة أو السلطة أو النفوذ أو الدعم المالي أو العسكري، ويمكن أن يكون التطبيق مكانيا باستحضار وفرة المشجعين مع قلة أتباع الفريق الآخر.
القلب البشري يتقلب بالرضا والقناعة والمحبة بين أحبته، وينغمس في العذاب بغربة ظرفه بين من لا يرى فيهم ذاته وثقافته ومشتركاته. الأقليات في العراق ربما تكون نموذجا مثاليا للتحليل والدراسة والتطبيق، لأن التجمعات السكانية وعمقها الزمني وتوالي الخطوب والاحتلالات ومتغيرات الطبيعة، وفرت تنوعات في الانتماءات والمؤثرات، أهمها الأديان بسبب نشوء الحضارات ونزوع الإنسان إلى تأثيث حياته ووجوده واستمراره.
من بين الملاحظات الكثيرة، رغبة المجموعات القليلة العدد في العيش المشترك مع أفرادها والتقارب في السكن، ونشأة القرى يؤكد ذلك، وصولاً إلى العائلة الواحدة التي تفرعت أغصان شجرتها وتكاثرت.
السبب الرئيسِ في اعتقادي هو البحث عن مصادر الدعم والقوة، الكثرة العددية توفر ذلك، هذا حاصل حتى في مدينة مثل بغداد، فالعوائل المتشابهة عشائريا تتجمع في حي واحد وتتكاثر، حتى أصبحت الكثير من الأزقة والمحلات تعرف بأسماء ألقابهم وأنسابهم، ليس غريبا أن يحدث هذا، لأن الناس في ظل غياب هيبة القانون مع متغيرات السياسة وانقلابات المزاج الاجتماعي، لا تؤمن بالاستقرار إلا بظل حماية عددية من مجموعتها.
الحقيقة أن العادات والتقاليد والشعائر والطقوس والتكوين النفسي الخاص للمجموعة البشرية القليلة العدد قياسا بمحيطها ليست حكرا على منطقتنا، إنما نشهد ذلك في قلب أوروبا الغربية، فعلى الرغم من كل تطورها الاجتماعي وتحررها في السلوك ونمط العيش، ما زالت بعض المجموعات تحيا في طوقها الخاص في شبه عزلة، ويتم التعامل معها، من الآخرين، بالحيطة والحذر لأنهم متكفؤون على تقاليدهم وأزيائهم وتراث سلالاتهم وانحسار التصاهر إلا فيما بينهم، ويزاولون أعمالاً خاصة بهم، وليس غريبا أن يذهب أحدهم ضحية من قبل متوجسين أو متشددين أو منفلتين.
الأقلية غالبا ما تتورط معها الدولة الراعية في سلوكين، إما إعطاء الحقوق المتساوية مع الآخرين مضافا إليها حقوق الخصوصية، أو سلب الحقوق الخاصة المضافة، وفي كلا الحالتين يتم النظر إليهم كوجود يدفع للإزعاج من قبل الأكثرية العددية، أو النفور من قبل الأقلية العددية، لأنها تظل تطالب بخصوصيتها في اللغة أو الدين أو التوجهات الأخرى.
العراق كان مصدر ثراء في التنوع، وتكوينه الاجتماعي النفسي مؤهل للتعايش، فمصادر قلقه غالبا ما كانت خارجية، بالغزو والاحتلالات المتعددة المصادر، وتساوي المآسي مع بقايا حضاراته وإحساسه بأن أرضه مصدر خير في خصبها ووفرة مياهها، وإنسانه بين صعود كبير ونزول خطير في مزاجه، بما يساعده على النهوض والتحليق من الرماد دائما.
الأقليات غير متقاربة النسبة مع الأكثرية العددية، مهما كانت نوع الإحصائية، هي عوامل مساعدة في الاستقرار، لأنها لا تمارس قوتها في المنافسة على السلطة أو انتزاع الحقوق العامة بالعنف أو أساليب المعارضة أو الميليشيات، إنما تسعى لبناء خصوصيتها بالعمل، وإثراء علاقتها بالمجتمع من خلال ابتكار المشاريع والإبداع لإبراز هويتها الإيجابية في خدمة الناس ومن يوفر لهم العيش اللائق والرعاية الإنسانية، والأمثلة كثيرة في العراق وربما يفيد التذكير بالأرمن وما حصل لهم من مذابح في بدايات الحرب العالمية الأولى وهروبهم إلى الحاضنة الإنسانية في العراق، دليل على طبيعته في نصرة الأقليات المظلومة والدفاع عنها واحترامها إنسانيا.
الشرق الأوسط، والعراق جزء منه، تنطبق عليه، في مراحل من تاريخه، صفة الأقلية الحاكمة المتفردة في توجيه مصيره بالسلطة الغاشمة واستغلالها لقوة الدولة ومواردها في تفتيت الشعب إلى أقليات صغيرة مبعثرة.
مصطلح الأقلية لا يعني كثيرا مقابل الوقائع، إنما الأقلية تأتي رفقة الاستثناء والخصوصية ومع بناة الحياة والمبدعين ومانحين الأمل في غد البشرية، والأمثلة من “مهد الحضارات”، كما يقول الأمين العام للأمم المتحدة في وصفه لمنطقة الشرق الأوسط، فيها من العلماء والأدباء ومؤسسي الحضارة الحديثة وعلومها، ما يزيل عنها اللبس الحاصل في التفاهم، مع ردات فعل همجية واسترجاع الصراعات الدينية والنزاعات الفقهية الاجتهادية، واستحضار الخلافات المغلقة حول الحقائق الأزلية وتوافقاتها الروحية والفكرية، وهي تسيء في كل الأحوال إلى مستقبل الأديان والمذاهب والفِرَق في الأديان الـ3، وتلقي تبعات مضافة إلى الهم الإنساني الذي يتعرض لانقسامات ومواجهات في المعتقدات، وصلت إلى التكفير وسفك الدماء وتبادل الثأر والانتقام بديلا عن الرأي والحوار والرفض أو القبول العقلاني، تجاه ما يعرف بالأقليات أو الأكثرية المفتتة.
الجرائم وصلت إلى الإبادات الجماعية والسبي والاغتصاب وتهديم تراث وادي الرافدين والإنسانية، وما يقابلها من إثارات طابعها مذهبي وطائفي، لكنها في المحصلة صراعات سياسية وطموحات تبتعد وتتراجع إلى الماضي، ولا تقدم أملا للمستقبل وحاجات الإنسان الأساسية.
العراق والشرق الأوسط، يشهدان بالمحصلة ما تشهده الأمة العربية من غربلة لتراثها الديني والإنساني، ومحاولة النهوض والخروج من الفضاء القديم المشترك لمهد الحضارات، والعودة إلى التواضع والاندماج مع الإنسانية بعيدا عن التعالي والتعصب. الفكرة كلنا أقلية إذا تفرقنا، وكلنا أكثرية إذا تجمعنا.
العرب اللندنية _ وطن اف ام